الحزم في التربية
صفحة 1 من اصل 1
الحزم في التربية
يروي لنا التاريخ أن عمر بن عبد العزيز كان قد أرسله أبوه وهو شاب صغير إلى المدينة المنورة ليتعلم فيها الفقه وعلوم الدين، وكان صالح بن كيسان مؤدبه والقائم على أمر ملازمته وتوجيهه وإرشاده، وفي ذات يوم انتبه هذا المؤدب أن عمر بن عبد العزيز لم يحضر صلاة الجماعة وتخلف عنها، فذهب إليه ليستطلع الأمر فسأله قائلاً: ما أخرك عن صلاة الجماعة؟ فأجاب عمر: كانت مرجلتي تسكن شعري، فأجابه صالح متعجباً: وبلغ من تسكين شعرك أنه يؤخرك عن الصلاة!! وكتب بذلك إلى أبيه عبد العزيز بن مروان، فما كان من أبيه إلا أن أمر بحلق رأسه تأديباً له وتربية وتعليماً حتى لا يعود لمثلها، فكان من خيرة الآباء حرصاً ورعايةً وتقويماً، وكان عمر من خير الأبناء أدباً واحتراماً ورعايةً لحق الله وحق الأبوين.
ولو تأملنا منهج التربية الإسلامية في العصور الأولى لوجدناها تلتزم الحزم، وتنهج الضبط والرعاية وتمضي على طريق التوجيه المباشر والفوري دون إبطاء أو تراخ أو تجاهل، ولا يصنع الرجال إلا من هذا المضمار، ولا يتخرجون إلا من مدرسة المتابعة والتقويم المستمر.
هذا عبد الرحمن بن المديني يزوج ابنته، وفي أول صباح لها بعد الزفاف يذهب ليؤذن قرب باب غرفتها ليخرج الزوج من الدار إلى المسجد، فاستنكر النساء وقالوا له: ما هذا ؟ فقال لهم: " وأمر أهلك بالصلواة واصطبر عليها ".
وكذلك صنع عمر مع ولده عبد الله حين فرض للمهاجرين الأولين أربعة آلاف، وفرض لولده ثلاثة آلاف وخمسمائة، فقيل له: هو من المهاجرين فلم نقصته؟ فقال: إنما هاجر به أبوه!! حيث كان عبد الله حين الهجرة طفلاً صغيراً.
لقد فهم هؤلاء المربون صناعة الرجال لها أسس وقوانين، ولها أسباب ووسائل يأتي الحزم على رأسها، حيث أن الخطأ له اسم واحد هو الخطأ لا غير، وحيث أن الحق له مظهر ثابت وهو أنه ميزان العدل ومظهر الرحمة.
ولربما أشكل الأمر على البعض في التفريق بين الحزم والعقاب، فظن أن الحزم هو لون واحد وشكل واحد ، بل هو كلمة واحدة تختصر في كلمة العقاب الصارم، أو الجد الدائم، أو الشدة والغلظة، أو القسوة الزائدة، وذلك ليس هو الجواب الصحيح ولا الفهم الصريح، بل من يفعل ذلك إنما يخلط الأوراق بعضها ببعض جهلاً منه أو تعمداً!! وفي كلا الحالين فهو غير معذور ولا مُعفى، فالجاهل يقتضي من صاحبه أن يرفعه بالعلم والمعرفة، والتعمد عذره أقبح لأن الذي يتعمد أن يفهم التربية على أنها قسوة وشدة وغلظة يكون قد فهم الأمور بالمقلوب، ووجب حتماً أن نُنجده بالجواب ونسعفه بالشرح والتوضيح ومحو الالتباس.
ذلك أن الحزم التربوي المطلوب هو أكبر معاني الحب وأوثق معاني الود، ومن أظهر الأدلة على عظيم حب الإنسان لمن يربيه ويعلمه. حيث أن المربي الحازم يغار على من يعلم أن يراه في موطن الخطأ والزلل والغفلة، فمن شدة حبه ينبهه بالكلام تارة وبالتأديب المتوازن تارة، ولا نعلم في ميزان الحب وشريعة المودة عمن يرضى لمحبوبه الخطأ أو يقبل أن يراه في مواطن الغفلة والاعوجاج.
على أن القول بوجوب الحزم لا يعنى على الإطلاق أن تكون العصا سيدة الموقف والحكم المطاع، بل الحازم في التربية لا يستخدم العصا حيث تكفيه العبارة، ولا يستخدم العبارة حيث تكفيه الإشارة، منسجماً في ذلك مع نفسه، متوافقاً مع ذوقه وحسه، متابعاً لقول الشاعر:
تكفي اللبيب إشارة مرموزة وسواء يدعى بالنداء العالي
فهو يسعى لتربية الإحساس بالذوق والحق والجمال في نفس من يربي، لاعتقاده أن العبد يقرع بالعصا، أما الحر فتكفيه الإشارة.
وهذا لعمرو الحق أصح شيء في هذا الباب حيث أن الحزم علامة الحب، والغلظة والقسوة علامة الرغبة في الانتقام، فما من غليظ في التأديب إلا ويوصل رسالة واضحة إلى من يؤدب أنه راغب في التنفيس عن غيظه وغضبه بذلك النوع من العقاب المبرح!!
لذلك فإن القسوة الزائدة تؤلم وتوجع وتترك أثراً في القلب لا تمحوه السنون والأيام!! وتلك الغلظة علامة فشل ذريع في تصور مفهوم التربية، وفي الوقوف على فنونها وطرائقها وصورها.
فلله درُّ سلفنا الأوائل الذين كان تأديبهم رحمة، وتوجيههم حكمة، وتقويمهم رمزاً مباشراً للحب والحنان، فما أثر عن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وهو معلم الأمة ومربيها أنه بالغ في تأديب طفل، ولا استخدم الغلظة في تربية الناشئة، بل كان يربي ويعلم بالحب ويعلم بالرحمة، فبلغ من قربه من نفوس الناشئة والشباب أنهم كانوا أول من يستقبله إذا عاد من سفر، وأول من يخرج إليه إذا رجع من جهاد أو قتال.
فلله درُّ مربٍّ عقل عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى العظيم، فتقرب بقلبه إلى تلامذته أولاً ليقينه أن القلوب إذا رضيت بالمعلم ومالت إليه فإن التعليم والتقويم يصبح سهلاً ميسوراً، حيث أن المحب يطيع من يحب، فهي كلمة قالها كل مربٍّ حكيم: من أمر بمعروف فليكن أمره بمعروف.
وما أروع أن تأتي الحقائق العلمية لتشهد على روعة منهجنا القويم، ولتؤكد بطرقها الخاصة أن من أراد أن لا يضرب رأسه في الحائط وحيداً حين يكبر، عليه أن يفهم معنى الحزم في التأديب، ومعنى العزم في السير على الطريق، فلا يلتفت كثيراً للوراء، إنما يمضي بأنفاس حارة ملؤها الثقة بالنفس والإيمان الكامل، بأن دليل الحب للأبناء هو الحزم وليس شيئاً آخر.
هذا أخصائي الأطفال العالمي (سبوك) يؤيد هذا الاتجاه بقوة حين يخاطب كل أم قائلاً لها: " إن الأسلوب الصحيح الذي يجب أن تتبعه الأم مع كل طفل هو أنه شخص يتمتع بكيان مستقبل، نشكره عندما يستحق الشكر، نؤدبه عند يستحق أن يؤدب، نمنحه هدية عند يستحق ذلك، نحدد له ميعاد النوم، نكلفه بمساعدتنا في أعمال المنزل، نضع أمامه أحلام التفوق في المجال الذي يهواه ونساعده على ذلك ".
خلاصة القول لا بد من التصرف مع المواقف التي يأتي بها الأبناء حسب طبيعتها وما تقتضيها الحكمة وترتضيه المنطق والحق، بقي أن نشير على مسألة هامة وهي أن هذه الدعوة إلى العناية بطرائق التربية موجّهة كذلك إلى المعلمين والمعلمات، حيث أنهم الشركاء الحقيقيون في مسألة التربية مع الآباء والأمهات، وهم المؤهلون أكثر من غيرهم للتأثير في نفوس الطلاب والطالبات.
مريم عبد الله النعيمي
ولو تأملنا منهج التربية الإسلامية في العصور الأولى لوجدناها تلتزم الحزم، وتنهج الضبط والرعاية وتمضي على طريق التوجيه المباشر والفوري دون إبطاء أو تراخ أو تجاهل، ولا يصنع الرجال إلا من هذا المضمار، ولا يتخرجون إلا من مدرسة المتابعة والتقويم المستمر.
هذا عبد الرحمن بن المديني يزوج ابنته، وفي أول صباح لها بعد الزفاف يذهب ليؤذن قرب باب غرفتها ليخرج الزوج من الدار إلى المسجد، فاستنكر النساء وقالوا له: ما هذا ؟ فقال لهم: " وأمر أهلك بالصلواة واصطبر عليها ".
وكذلك صنع عمر مع ولده عبد الله حين فرض للمهاجرين الأولين أربعة آلاف، وفرض لولده ثلاثة آلاف وخمسمائة، فقيل له: هو من المهاجرين فلم نقصته؟ فقال: إنما هاجر به أبوه!! حيث كان عبد الله حين الهجرة طفلاً صغيراً.
لقد فهم هؤلاء المربون صناعة الرجال لها أسس وقوانين، ولها أسباب ووسائل يأتي الحزم على رأسها، حيث أن الخطأ له اسم واحد هو الخطأ لا غير، وحيث أن الحق له مظهر ثابت وهو أنه ميزان العدل ومظهر الرحمة.
ولربما أشكل الأمر على البعض في التفريق بين الحزم والعقاب، فظن أن الحزم هو لون واحد وشكل واحد ، بل هو كلمة واحدة تختصر في كلمة العقاب الصارم، أو الجد الدائم، أو الشدة والغلظة، أو القسوة الزائدة، وذلك ليس هو الجواب الصحيح ولا الفهم الصريح، بل من يفعل ذلك إنما يخلط الأوراق بعضها ببعض جهلاً منه أو تعمداً!! وفي كلا الحالين فهو غير معذور ولا مُعفى، فالجاهل يقتضي من صاحبه أن يرفعه بالعلم والمعرفة، والتعمد عذره أقبح لأن الذي يتعمد أن يفهم التربية على أنها قسوة وشدة وغلظة يكون قد فهم الأمور بالمقلوب، ووجب حتماً أن نُنجده بالجواب ونسعفه بالشرح والتوضيح ومحو الالتباس.
ذلك أن الحزم التربوي المطلوب هو أكبر معاني الحب وأوثق معاني الود، ومن أظهر الأدلة على عظيم حب الإنسان لمن يربيه ويعلمه. حيث أن المربي الحازم يغار على من يعلم أن يراه في موطن الخطأ والزلل والغفلة، فمن شدة حبه ينبهه بالكلام تارة وبالتأديب المتوازن تارة، ولا نعلم في ميزان الحب وشريعة المودة عمن يرضى لمحبوبه الخطأ أو يقبل أن يراه في مواطن الغفلة والاعوجاج.
على أن القول بوجوب الحزم لا يعنى على الإطلاق أن تكون العصا سيدة الموقف والحكم المطاع، بل الحازم في التربية لا يستخدم العصا حيث تكفيه العبارة، ولا يستخدم العبارة حيث تكفيه الإشارة، منسجماً في ذلك مع نفسه، متوافقاً مع ذوقه وحسه، متابعاً لقول الشاعر:
تكفي اللبيب إشارة مرموزة وسواء يدعى بالنداء العالي
فهو يسعى لتربية الإحساس بالذوق والحق والجمال في نفس من يربي، لاعتقاده أن العبد يقرع بالعصا، أما الحر فتكفيه الإشارة.
وهذا لعمرو الحق أصح شيء في هذا الباب حيث أن الحزم علامة الحب، والغلظة والقسوة علامة الرغبة في الانتقام، فما من غليظ في التأديب إلا ويوصل رسالة واضحة إلى من يؤدب أنه راغب في التنفيس عن غيظه وغضبه بذلك النوع من العقاب المبرح!!
لذلك فإن القسوة الزائدة تؤلم وتوجع وتترك أثراً في القلب لا تمحوه السنون والأيام!! وتلك الغلظة علامة فشل ذريع في تصور مفهوم التربية، وفي الوقوف على فنونها وطرائقها وصورها.
فلله درُّ سلفنا الأوائل الذين كان تأديبهم رحمة، وتوجيههم حكمة، وتقويمهم رمزاً مباشراً للحب والحنان، فما أثر عن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وهو معلم الأمة ومربيها أنه بالغ في تأديب طفل، ولا استخدم الغلظة في تربية الناشئة، بل كان يربي ويعلم بالحب ويعلم بالرحمة، فبلغ من قربه من نفوس الناشئة والشباب أنهم كانوا أول من يستقبله إذا عاد من سفر، وأول من يخرج إليه إذا رجع من جهاد أو قتال.
فلله درُّ مربٍّ عقل عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى العظيم، فتقرب بقلبه إلى تلامذته أولاً ليقينه أن القلوب إذا رضيت بالمعلم ومالت إليه فإن التعليم والتقويم يصبح سهلاً ميسوراً، حيث أن المحب يطيع من يحب، فهي كلمة قالها كل مربٍّ حكيم: من أمر بمعروف فليكن أمره بمعروف.
وما أروع أن تأتي الحقائق العلمية لتشهد على روعة منهجنا القويم، ولتؤكد بطرقها الخاصة أن من أراد أن لا يضرب رأسه في الحائط وحيداً حين يكبر، عليه أن يفهم معنى الحزم في التأديب، ومعنى العزم في السير على الطريق، فلا يلتفت كثيراً للوراء، إنما يمضي بأنفاس حارة ملؤها الثقة بالنفس والإيمان الكامل، بأن دليل الحب للأبناء هو الحزم وليس شيئاً آخر.
هذا أخصائي الأطفال العالمي (سبوك) يؤيد هذا الاتجاه بقوة حين يخاطب كل أم قائلاً لها: " إن الأسلوب الصحيح الذي يجب أن تتبعه الأم مع كل طفل هو أنه شخص يتمتع بكيان مستقبل، نشكره عندما يستحق الشكر، نؤدبه عند يستحق أن يؤدب، نمنحه هدية عند يستحق ذلك، نحدد له ميعاد النوم، نكلفه بمساعدتنا في أعمال المنزل، نضع أمامه أحلام التفوق في المجال الذي يهواه ونساعده على ذلك ".
خلاصة القول لا بد من التصرف مع المواقف التي يأتي بها الأبناء حسب طبيعتها وما تقتضيها الحكمة وترتضيه المنطق والحق، بقي أن نشير على مسألة هامة وهي أن هذه الدعوة إلى العناية بطرائق التربية موجّهة كذلك إلى المعلمين والمعلمات، حيث أنهم الشركاء الحقيقيون في مسألة التربية مع الآباء والأمهات، وهم المؤهلون أكثر من غيرهم للتأثير في نفوس الطلاب والطالبات.
مريم عبد الله النعيمي
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى